لكل قاعدة استثناء.. هذه المقولة تنطبق بلا نقاش على حى المعادي بالعاصمة المصرية القاهرة، فالعاصمة التي تأتي في الترتيب رقم 1 بين أزحم عواصم الوطن العربي وأكثرها إزعاجًا، وضمن العواصم الأكثر ازدحامًا بالعالم، تضم هذا الحي الراقي بين جنباتها، والذي يعد بلا منازع أرقى أحياء القاهرة وأكثرها هدوءًا حتى أنك قد تتخيل عندما تشتري أو تستأجر احدى شقق المعادي لتنتقل إليها من قلب العاصمة، وكأنك سافرت عبر الزمن وعدت للثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، عندما كان الهدوء بالقاهرة هو سيد الموقف.
المعادي سنة 1900
قد لا يتخيل البعض أن عمر حي المعادي حوالي 140 عامًا، حافظ فيه على تميزه وهدوئه على الرغم من مرور تلك السنوات، والكم الهائل من التغييرات التي شهدها المجتمع المصري خلال تلك الفترة الزمنية الطويلة، ولا أحد يدري السر وراء ذلك سوى أن من يسكن إحدى شقق للبيع فى المعادي يتحول إلى كائن محب للهدوء والسكينة فلا يفكر في تغيير نمط الحياة بها، والذي بدأ تقريبًا منذ عام 1880 في عهد الخديوي إسماعيل، وربما كانت البداية تسبق ذلك بسنوات، حيث يمكننا أن نعتبر أن بوادر ظهور منطقة المعادي للحياة، كان في عام 1868 عندما تنامى إلى علم الخديوي إسماعيل أن هناك منطقة تبعد عن قلب العاصمة حوالي 25 كم جنوبًا، بها مياه كبريتية وعذبة يمكن استثمارها في إنشاء أول منتجع استشفائي سياحي بالشرق الأوسط، فقرر تشكيل لجنة من الخبراء لدراسة هذا الأمر، وبالفعل عادوا إليه ليخبروه بأن المكان فيه مزايا أكثر من ذلك، من بينها أنه لا يبعد كثيرًا عن المنطقة الأثرية الفرعونية بالجيزة، كما أنه يقع على الشاطيء الجنوبي لنهر النيل.
تم انشاء خط للسكك الحديدية ليربط بين العاصمة وتلك المنطقة النائية حينئذ، وكان ذلك في عام 1880 وتم تقسيم جانبي شريط القطار ومحطاته إلى أحياء جديدة سيتم بنائها فيما بعد ومن بينها بالطبع المعادي، إلا أنه في ذلك الوقت لم يكن هناك ترتيب لإقامة عمارات سكنية بالشكل الذي نعرفه حاليًا، ويضم شقق للبيع أو شقق للايجار، بل كان من المقرر أن يكون لكل فرد أو عائلة مسكنهم أو فيلتهم الخاصة.
وبعد بضعة أعوام قليلة، من تشغيل خطط السكك الحديدية رسميًا في عام 1890، تم تكليف مهندس بالجيش البريطاني، وهو كندي الجنسية، ويدعى ألكسندر آدامز، بوضع تخطيط لمدينة صغيرة هادئة تقع بالقرب من خط السكة الحديد ولها محطة خاصة بها، وأطلقوا عليها في البداية اسم «المعدية»، نسبة إلى تلك المعدية التي كانت موجودة بها، لعبور الجانب الآخر من النيل، ثم تحرّف الاسم مع نطق الأجانب والأتراك له، ليصبح «المعادي»، وبالفعل قام الضابط المهندس «آدامز» برسم التخطيط الهندسي والمعماري لتلك الضاحية، واستوحاها من قرى الريف الانجليزي، والذي يتسم بفيلات من دورين، وشوارع مستقيمة وطويلة، تربط بين محطات القطارات، والميادين الرئيسية والفرعية، وهو ما ظهر جليًا بالفعل في حي المعادي ذلك الحي السكني المتميز في القاهرة بصخبها وضجيج شوارعها، حيث لا يوجد بالمعادي سوى نسق بنائي واحد، وهو فيلات من طابقين، ملحق بها حديقة أمامية، غنية بأشجار الزينة النادرة، وبسبب هذا التميز تحولت تلك الضاحية الراقية إلى تجمع لسكن الباشوات وكبار المسئولين بالدولة، وأيضًا أعيان الاستعمار البريطاني وكبار ضباطه، خاصة مع قيام الشركة الملكة للحي بإنشاء نادي «المعادي سبورتنج» الرياضي، المزود بحمامات السباحة وملاعب الجولف والفروسية والكروكيت والهوكي، بالإضافة إلى مساحات خضراء شاسعة وحدائق ذات أشجار ونباتات نادرة، فضلًا عن المطاعم والكازينو ودور الضيافة، أما في عام 1912 فقد انتقلت المنطقة إلى مستو آخر، بالتأكيد لم يكن توفير شقق سكنية بها، وإنما كان البدء في بناء أول محطة في العالم للطاقة الحرارية من الشمس، والتي تستخدم في ضخ الماء من نهر النيل ليصل إلى حقول القطن التي انتشرت بالمكان، وتم الانتهاء بالفعل من تلك المحطة بعدها بأقل من عام تقريبًا.
المعادي سنة 2000
هل أعجبتك المعادي القديمة، وقصة نشأتها، وتتمنى لو أنك كنت تحيا في هذا الوقت لتعيش بها بجوار الباشوات والأعيان؟.. لا تقلق فما زالت الفرصة أمامك سانحة حتى الآن!!.. فالمعادي كما هي لم يغيرها الزمان ولا كل الأحداث التي مرت بها مصر، خلال أكثر من 100 عام، فقط تطور حي المعادي ليواكب العصر، وإن احتفظ بأهم سماته وهي الهدوء والأمان، فقد حدثت بالفعل تغيرات طفيفة بالمنطقة من بينها أنها قد أصبحت اكثر اتساعًا ومساحة حتى أنها تحولت من مجرد حي إلى مدينة تضم 7 مناطق رئيسية احتفظت 4 منها بالنمط الراقي الذي اشتهر به حي المعادي، بينما تمزج ثلاث مناطق بها ما بين الأصالة والشعبية، وتضم المناطق الراقية (المعادي القديمة - المعادي الجديدة - زهراء المعادي - ثكنات المعادي)، أما الثلاثة الباقية والتي تقترب من تصميم وشكل أحياء الطبقة الوسطى وليست الشعبية والعشوائيات بالتأكيد فهي (عرب المعادي - حدائق المعادي – طرة)، وهي التي تم ظهور العمارات والأبراج السكنية بها، ويتوافر بها حاليًا شقق للبيع فى المعادي أو شقق للايجار فى المعادي ، وبالطبع أسعارها ليست رخيصة فهي جزء من المعادي بهدوئها ورقيها، وهو ما ينعكس عليها بارتفاع أسعارها مقارنة بغيرها من المناطق القريبة.
كما أن من بين ما طالته يد التغيير بالمعادي، هو أسماء الشوارع، حيث كانت المعادي القديمة يحمل شارعاها الرئيسيان اسمي الملك فؤاد وولي عهده الأمير فاروق (الملك فاروق فيما بعد)، أما بقية الشوارع، فتحمل أسماء أشهر العائلات اليهودية والشخصيات الانجليزية الكبرى بمصر، ولكن بعد ثورة 1952 تغيير الأمر، وأصبحت شوارع المعادي تحمل أرقامًا بدلاً من الأسماء، لتصبح ميزة اخرى تضاف إلى مزاياها العديدة، فنجد لدينا أشهر شوارعها وهو شارع 9 الذي يعد الشارع الرئيسي بالمعادي، ثم هناك شارع 10 وشارع 105 وغيرها من الشوارع ذات الأرقام، كما تحول القطار القديم إلى مترو الأنفاق بديلًا عنه، وحملت محطاته أسماء مناطق المعادي، وهو ما زاد من أسعار شقق للايجار بها، وبالطبع شقق للبيع.
أما عن عشق الأجانب للمعادي فما زال مستمرًا، فعلى الرغم من رحيل الاحتلال البريطاني عن مصر منذ سنوات عديدة، إلا أن المعادي لا تزال هي المكان المفضل للسفارات والقنصليات والجاليات الأجنبية، سواء للمباني الرسمية أو شقق السكن الشخصي، فضلًا عن انتشار المدارس الدولية بها، وهو ما يجعل أبناء قاطنيها يحصلون على شهادات دراسية دولية، دون أن يغادروا أرض الوطن ويضطرون للإقامة بدول أجنبية دون ذويهم، وهذا بالطبع بانتشار المؤسسات الثقافية والتعليمية بالمنطقة، سواء المملوكة للدولة أو التابعة لدور نشر ومؤسسات دولية وإقليمية، مثل مدارس الليسيه الفرنسية، وكلية فيكتوريا، بالإضافة إلى مقرات لنوادي اجتماعية وأخرى رياضية تم تأسيسها على النسق الأوروبي، وتنافس فيما تقدمه من خدمات النوادي الشهيرة بأوروبا، مثل نادي الصيد ونادي وادي دجلة (المنافس بقوة في الدوري العام المصري)، ونادي المعادي.